عرض: إيمان فخري- باحثة دكتوراه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة
ساد في الأوساط السياسية الأمريكية خلال الأشهر الماضية، مع انتشار فيروس كورونا المستجد، بوتيرة متسارعة حول العالم؛ اعتقاد بأن سيطرة الحزب الشيوعي في الصين بدأت تتفكك وتنحسر بسبب عدم شفافية النظام الصيني، وإخفاقه في بداية التعامل مع أزمة انتشار الفيروس، وما استتبع ذلك من تكبد بكين خسائر اقتصادية فادحة، ومن ثم حدوث تراجع في شعبية الحزب الصيني الذي تعتمد شرعيته اعتمادًا رئيسيًّا على الأداء الاقتصادي القوي له منذ عقود.
ولكن خلال شهري مارس وأبريل من العام الجاري، تغير هذا الاعتقاد بالكامل عندما بدأت الصين تسيطر بشكل أفضل على الانتشار الوبائي للفيروس داخلها. وقد تزامن ذلك مع الانتشار السريع للفيروس في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا؛ حيث نتج عن ذلك تصاعد نبرة التصريحات الغاضبة بين واشطن وبكين؛ ففي حين تتهم الأولى الثانية بأنها تكتمت على ظهور الفيروس ما ورَّط العالم في هذه الجائحة؛ تؤكد بكين أن واشنطن تُحمِّلها نتيجة فشلها في إدارة الأزمة بشكل فعَّال كما فعلت.
وفى ظل هذه الحرب الكلامية بين القوتين، ينطلق "كيفين رود" رئيس الوزراء السابق لأستراليا، في تحليل بعنوان "الفوضى القادمة بعد كوفيد"، نُشر في موقع مجلة "فورين أفيرز" في ٦ مايو ٢٠٢٠، من فرضية أساسية تتمحور حول أن هذه الأزمة ستعمل على تقليص قدرات كل من الولايات المتحدة والصين في الداخل والخارج؛ ما يعني أن العالم سينجرف ببطء، ولكن بوتيرة ثابتة نحو الفوضوية الدولية، التي ستطال كافة نواحي الحياة من الأمور المتعلقة بالأمن الدولي والتجارة الدولية إلى كيفية إدارة الجائحة. وخير دليل على ذلك هو الاستجابات الدولية المختلفة للتعامل مع الجائحة، فلم يكن هناك توجه واحد أو حتى توجه رئيسي للدول حيال التعامل معها.
تداعيات الجائحة
يمكن استقراء ثلاثة تداعيات رئيسية لجائحة كوفيد–١٩ على الصين، يتعلق أولها بالحزب الشيوعي الصيني الذي أدى تفشي الفيروس إلى انشقاق سياسي كبير داخله، من خلال توجيه الانتقادات لقيادات الحزب حول كيفية إدارة الأزمة، وقد وصل الأمر إلى حد توجيه اللوم لأسلوب القيادة المركزية للرئيس "تشي جين بينغ".
وانعكس ذلك في عدد من التعليقات شبه الرسمية التي تم تسريبها بشكل غامض إلى بعض وسائل الإعلام خلال شهر أبريل، خاصةً في ضوء الجدل الداخلي حول عدة موضوعات أهمها العدد الدقيق للضحايا والمصابين داخل الصين، ومخاطر تفشي موجة ثانية من الفيروس تزامنًا مع إعادة فتح البلاد ببطء، وكذلك التوجه المستقبلي للسياسة الاقتصادية والخارجية للدولة.
ويتمحور ثانيها حول الاقتصاد الصيني الذي خلفت الأزمة ضررًا هائلًا عليه؛ فعلى الرغم من ضخ النظام حزمات تمويلية ضخمة لتحفيز الاقتصاد الصيني والعمل على إعادة الشركات والمصانع لممارسة أنشطتها الإنتاجية في ظل التدابير الاحترازية –وذلك لرفع مستوى الإنتاجية خلال النصف الثاني من عام ٢٠٢٠– فإن ذلك لن يعوض الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها بكين في الربعين الأول والثاني من العام الحالي.
ويعزى ذلك إلى أن قطاع التجارة هو المحرك الرئيسي للاقتصاد الصيني، ويمثل ٣٨% من الناتج الإجمالي للصين. وحيث إن انتشار الفيروس في الغرب قد أدى إلى تخفيض حجم التجارة العالمية والتجارة البينية مع بكين بطبيعة الحال، فإن استمرار الجائحة وانخفاض مستويات التصدير، سيعمل على عرقلة خطط الانتعاش الاقتصادي للصين.
وفى هذا السياق، يرى الكاتب أنه من المرجح أن يسجل معدل الاقتصاد الصيني بنهاية ٢٠٢٠ صفرًا تقريبًا، وهو –بالتأكيد– أسوأ معدل نمو اقتصادي سجلته الصين منذ الثورة الثقافية قبل خمسة عقود، علاوة على قيد آخر يعاني منه الاقتصاد الصيني يتمثل في الارتفاع الشديد في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي التي تبلغ نحو ٣١٠٪؛ ما يعرقل إمكانية الإنفاق وضخ مزيد من الموارد المالية في قطاعات حيوية كالتعليم والتكنولوجيا والدفاع.
أما ثالثها فيتعلق بالمكانة الدولية للصين؛ حيث تضررت مكانة بكين وصورتها الدولية كثيرًا، نتيجة أنها كانت أول بقعة جغرافية لظهور الوباء، فضلًا عن أنها أخفقت خلال الأشهر الحاسمة الأولى لانتشار الوباء؛ ما ساعد على انتشاره عالميًّا. كما أن القوة الناعمة للصين تشهد تراجعًا ملحوظًا نتيجة انتشار حالة من العداء والعنصرية تجاه الصينيين في عدد من الدول منها الهند وإيران وإندونيسيا، علاوة على أن القوة الناعمة للصين ستشهد تراجعًا بشكل أكبر نتيجة الصعوبات الاقتصادية التي قد تجعل من الصعب على بكين التوسع في تقديم المساعدات الخارجية التي تعد من أهم أدوات القوة الناعمة الصينية.
ويشير التحليل إلى أن الإدارة الفوضوية للرئيس ترامب تجاه جائحة كوفيد–١٩ تركت انطباعًا لا يمحى عن أن الولايات المتحدة غير قادرة على التعامل مع الأزمات. فقد ساهمت هذه الأزمة في إلحاق ضرر كبير بصورة واشنطن كزعيمة للعالم الحر؛ فبدلًا من أن ينظر العالم إليها كأنها هي الدولة القادرة على مساعدة العالم للخروج من هذه الأزمة، وجد العالم أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تساعد نفسها حيال أزمة انتشار الفيروس، فضلًا عن وجود تقارير تفيد بمحاولة ترامب السيطرة الحصرية على لقاح يتم تطويره في ألمانيا، ناهيك عن التدخل الفيدرالي لوقف بيع معدات الحماية الشخصية لكندا، كأن العالم قد شاهد عمليًّا ما يعنيه ترامب بشعار "أمريكا أولًا".
مستقبل العلاقات الأمريكية–الصينية
يتوقع التحليل أن تشهد العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والصين –في حال فوز "ترامب" بولاية رئاسية ثانية في الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في نوفمبر المقبل– توترًا وتصادمًا أوسع، مدفوعًا بالغضب الشعبي الأمريكي تجاه الكشف عن أصل فيروس كورونا المستجد. أما إذا فاز المرشح الديمقراطي "جو بايدن"، فمن المرجح أن تتميز العلاقات الثنائية في ظل إدارته بمزيج من التعاون والتنافس؛ فقد تتعاون إدارة "بايدن" مع بكين حيال بعض الملفات مثل المناخ والأوبئة والاستقرار المالي العالمي.
لكن الكاتب يرى أن الصين تفضل إعادة انتخاب "ترامب"؛ لرغبته في كسر التحالفات التقليدية، والانسحاب الأمريكي من الاتفاقيات المتعددة الأطراف؛ ما يضعف القوة الأمريكية، ويتيح فرصة أكبر لبكين للصعود وتعزيز قوتها ومكانتها في النظام الدولي.
ولكن سواء فاز "ترامب" بفترة رئاسية ثانية أو فاز "بايدن"، فإن من غير المرجح أن تعود الولايات المتحدة إلى انتهاج سياسة "المشاركة الاستراتيجية" مع بكين التي كانت متبعه قبل عام ٢٠١٧.
أما على الصعيد الصيني، فتجدر الإشارة إلى أن بكين بدأت في مراجعة سياستها تجاه الولايات المتحدة منذ بدء الحرب التجارية عام ٢٠١٨، ولكن تكثفت عملية المراجعة الدقيقة في ظل أزمة فيروس كورونا، ومن المتوقع ألا تنتهى هذه المراجعة إلا قبيل المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني المقرر عقده عام ٢٠٢٢.
وتعد عملية المراجعة للتوجه الصيني نحو الولايات المتحدة، جزءًا من نقاش داخلي أوسع في بكين حول ما إذا كانت السياسات الداخلية والخارجية لبكين، في هذه المرحلة من تطورها الاقتصادي والعسكري، قد أصبحت في السنوات الأخيرة لا تقدم إصلاحات داخلية بالقدر الكافي، فضلًا عن كون سياستها الخارجية حازمة أكثر مما ينبغي.
فقبل صعود "تشي" إلى سدة الحكم، ارتكزت السياسات الخارجية الصينية على عدم السعي نحو إحداث أي تغييرات رئيسية على النظام الإقليمي والدولي، بما في ذلك القضايا المتعلقة بتايوان، والنزاع في بحر الصين الجنوبي، والوجود الأمريكي في آسيا. بمعنى آخر، كانت السياسات الخارجية الصينية محكومة بمبدأ "الانتظار" لحين تحول ميزان القوى الاقتصادية والعسكرية لصالحها؛ ما سيمكنها من إحداث التغييرات التي تسعى إليها.
ولكن مع صعود "تشي" تغيرت هذه الرؤية كليًّا، وأصبحت بكين أكثر حزمًا حيال القضايا الإقليمية والدولية بهدف إحداث بعض التغييرات لصالح تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، واتضح ذلك من خلال إطلاق مبادرة "الحزام والطريق".
ورغم أن توجهات الصين الخارجية مع صعود "تشي" لم تقابلها ردود أفعال عدائية من قبل الولايات المتحدة، فإنه بعد انتهاء أزمة فيروس كورونا، فمن المؤكد أنه سيكون هناك توجه أمريكي مختلف تجاه الصين. لذا يرى الكاتب أن السياسة الخارجية الصينية بعد الجائحة قد يسيطر عليها واحد من توجهين: أولهما يقضي بأن يسعى الرئيس الصيني إلى تخفيف التوترات مع الولايات المتحدة حتى يتم فقدان الوباء من الذاكرة السياسية؛ ما يعني استعادة بكين جزءًا من مكانتها وصورتها الدولية. أما ثانيهما فهو أن يقوم "تشي" باتباع سياسات خارجية عدائية؛ وذلك لكسب مزيد من التأييد الداخلي لكي ينقذ حزبه من أي مخاطر للانشقاقات، وبما يجعل المواطنين يلتفون حوله خوفًا من المخاطر الخارجية.
وفي كل الأحوال، يبدو أن العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، ستتجه نحو مزيد من التوتر. وتعد تايوان من أهم القضايا الخلافية التي ستعمل على تكريس هذا التوتر بين البلدين. فيعتقد الكاتب أن بكين ستبذل جهودًا كبيرة لتقليص حضور تايوان على الساحة الدولية والدبلوماسية، في حين أن ذلك ستقابله جهود أمريكية مكثفة لتأمين إعادة انضمام تايوان إلى منظمة الصحة العالمية، علاوة على تعزيز مستوى التمثيل الدبلوماسي بين واشنطن وتايبيه؛ ما سيعني انهيار الالتزام الأمريكي بسياسة الصين الواحدة التي تم الاعتماد عليها كركيزة أساسية لتطبيع العلاقات الأمريكية–الصينية في عام ١٩٧٩؛ لذا لا يستبعد الكاتب حدوث شكل من أشكال المواجهة العسكرية بين الولايات المتحدة والصين حيال تايوان.
تداعيات على النظام الدولي
قبل الأزمة الحالية، كان النظام الدولي الليبرالي يعاني من بدايات للتفتت؛ فالقوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة –التي تعد نقطة الارتكاز الجيوسياسي التي استند إليها هذا النظام– كانت تواجه تحديًا غير مسبوق من الصين على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ويرى الكاتب أن إدارة ترامب أضافت مشكلات جديدة للنظام الدولي من خلال إضعاف هيكل التحالف الأمريكي، الذي يمثل عنصرًا محوريًّا للحفاظ على توازن القوى ضد بكين، كما عمد "ترامب" إلى نزع الشرعية عن المؤسسات المتعددة الأطراف بأسلوب منهجي؛ ما خلق فراغًا سياسيًّا ودبلوماسيًّا وأتاح الفرصة لبكين لملئه.
ويضيف الكاتب أن الحديث عن وجود حرب باردة بشكل كامل بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية كان دائمًا يشار إليه بأنه أمر سابق لأوانه؛ بسبب ارتباط الاقتصادين الأمريكي والصيني، وعدم وجود حروب بالوكالة بين البلدين في بلدان ثالثة، وهي سمة ميزت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق. لكن التهديدات الجديدة التي يقوم بها كلا الجانبين، مع تزايد التوترات في ضوء الأزمة الحالية، قد تقلب موازين الأمور رأسًا على عقب، وتؤدي إلى زيادة حدة التوترات بين البلدين.
فقرارات مثل إنهاء استثمارات صناديق التقاعد الأمريكية في الصين، أو تقييد الحيازات الصينية المستقبلية من سندات الخزانة الأمريكية، أو بدء حرب عملة جديدة بين البلدين بسبب إطلاق العملة الرقمية الصينية الجديدة؛ قد تؤدي إلى نشوب حرب باردة بين البلدين، ناهيك عن أن إضفاء بكين بعدًا عسكريًّا على مبادرة الحزام والطريق، سيعمل على زيادة خطر نشوب حروب بالوكالة بين البلدين.
ويخلص المقال إلى نتيجتين رئيستين، تتمثل أولاهما في أنه بسبب الضرر الشديد المتعدد المستويات الذي تعاني وستعاني منه الصين والولايات المتحدة نتيجة الأزمة الحالية، فقد أصبح لا يوجد هناك "مدير للنظام الدولي" وفقًا لتعبير جوزيف ناي؛ ما قد يعني دخول البلدين في حرب باردة كاملة أو حتى بعض المواجهات العسكرية المباشرة في ظل الفوضى التي سيتسم بها النظام الدولي نتيجة ضعف الصين والولايات المتحدة.
أما ثانيتهما فتتعلق بأن تجنب هذا السيناريو الفوضوي مرهون بثلاثة عوامل: العامل الأول يتمثل في حدوث تغيير جذري في سياسات الولايات المتحدة. أما الثاني فيرتبط بحدوث تغير في توجهات الصين نحو مزيد من الإصلاح والاندماج العالمي؛ ما يسمح للبلدين بالعمل على تطوير بنية جديدة لحدوث انفراجة في علاقتهما الثنائية، في حين أن العامل الثالث يتعلق بجهود الدول الأخرى للحفاظ على المؤسسات الدولية المتعددة الأطراف من الانهيار لحين عودة الاستقرار الجيوسياسي إلى النظام الدولي مجددًا.
المصدر:
Kevin Rudd, The Coming Post-COVID Anarchy: The Pandemic Bodes Ill for Both American and Chinese Power—and for the Global Order, Foreign Affairs, May 6, 2020.